بسم الله الرحمن الرحيم :
اللهم لك الحمد حتى ترضى و لك الحمد إذا رضيت ، اللهم علمنا ما ينفعنا و زدنا علما يا أرحم الراحمين ، اللهم زدنا بالعلم قربا منك ، و زدنا بالعلم حبا لك ، و زدنا بالعلم معرفة بك ، و صلي على الحبيب المحبوب نبينا محمد ، و على آله الأخيار ، و أصحابه الأبرار ، و عنا معهم بمنك و فضلك و كرمك .
أما بعــــــــد :
قليل هم أولئك العلماء الذين إذا قرأت لهم أو تتبعت أخبارهم تملك عليك قلبك ، و تتمنى لقاءهم و لو كانوا في زمن غير زمنك ، و من هؤلاء الكبار شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يصف أحد تلاميذه مجلسا علميا له ، و هذا التلميذ هو الحافظ عمر بن على البزار فى كتابه ( الأعلام العليّة في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية ) و اترككم مع هذا الوصف الذي يأخذ بمجامع القلوب يوم كان لعلمائنا الأكابر من الصولة على القلوب مثل ما هو لغيرهم اليوم.
أخبرني الشيخ الصالح تاج الدين محمد المعروف بابن الدوري أنه حضر مجلس الشيخ رضي الله عنه و قد سأله يهودي عن مسألة في القدر قد نظمها شعرا في ثمانية أبيات فلما وقف عليها فكر لحظة يسيرة و أنشأ يكتب جوابها و جعل يكتب و نحن نظن أنه يكتب نثرا فلما فرغ تأمله من حضر من أصحابه و إذا هو نظم في بحر أبيات السؤال و قافيتها تقرب من مائة و أربعة و ثمانين بيتا و قد أبرز فيها من العلوم ما لو شرح بشرح لجاء شرحه مجلدين كبيرين هذا من جملة بواهره وكم من جواب فتوى لم يسبق إلى مثله
وأما ذكر دروسه فقد كنت في حال إقامتي بدمشق لا أفوتها وكان لا يهيئ شيئا من العلم ليلقيه ويورده بل يجلس بعد أن يصلي ركعتين فيحمد الله و يثني عليه و يصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم على صفة مستحسنة مستعذبة لم أسمعها من غيره ثم يشرع فيفتح الله عليه إيراد علوم و غوامض و لطائف و دقائق و فنون ونقول واستدلالات بآيات و أحاديث و أقوال العلماء و نصر بعضها و تبيين صحته أو تزييف بعضها و إيضاح حجته و استشهاد بأشعار العرب و ربما ذكر اسم ناظمها وهو مع ذلك يجري كما يجري السيل و يفيض كما يفيض البحر و يصير منذ يتكلم إلى أن يفرغ كالغائب عن الحاضرين مغمضا عينيه و ذلك كله مع عدم فكر فيه أو روية ، و من غير تعجرف و لا توقف و لا لحن بل فيض إلهي حتى يبهر كل سامع و ناظر فلا يزال كذلك إلى أن يصمت و كنت أراه حينئذ كأنه قد صار بحضرة من يشغله عن غيره و يقع عليه إذ ذاك من المهابة ما يرعد القلوب و يحير الأبصار و العقول و كان لا يذكر رسول الله قط إلا و يصلي و يسلم عليه و لا والله ما رأيت أحدا أشد تعظيما لرسول الله و لا أحرص على أتباعه و نصر ما جاء به منه حتى إذا كان أورد شيئا من حديثه في مسألة ويرى أنه لم ينسخه شيء غيره من حديثه يعمل به و يقضي و يفتي بمقتضاه ولا يلتفت إلى قول غيره من المخلوقين كائنا من كان وقال رضي الله عنه : كل قائل إنما يحتج لقوله ، لا به إلا الله و رسوله .
وكان إذا فرغ من درسه يفتح عينيه ويقبل على الناس بوجه طلق بشيش و خلق دمث كأنه قد لقيهم حينئذ و ربما اعتذر إلى بعضهم من التقصير في المقال مع ذلك الحال ، و لقد كان درسه الذي يورده حينئذ قدر عدة كراريس و هذا الذي ذكرته من أحوال درسه أمر مشهور يوافقني عليه كل حاضر بها ، و هم بحمد الله خلق كثير لم يحصر عددهم علماء و رؤساء و فضلاء من القراء و المحدثين و الفقهاء و الأدباء و غيرهم من عوام المسلمين .
فاللهم أعد علينا عزتنا بديننا التي اضمحلت عند كثير من جماهير المسلمين ، و ارزقنا علماء ربانيين تسير وراءهم الأمة لتسعد في الدنيا و الآخرة .