على الرغم من قلة عدد ضيوف إبراهيم ، وانسحاب القلة على تقدير ما يحتاجونه من طعام بحسب التقدير العقلي، إلا أنه من شدة كرمه وتقديره لضيوفه قدم لهم عجلاً سمينًا يكفي عشيرة، وحنيذ أي مطهي بأعلى وأجود أساليب الطهي، يقول تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات: 24-26]. ويقول سبحانه في موضع آخر: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69].
على هذا المنوال في كرم ضيافة سيدنا إبراهيم ، وتقديمه كمية كبيرة من أعلى أنواع الأطعمة وهو العجل السمين الحنيذ، ينبغي استقبال وإكرام ضيف المسلمين كل عام شهر رمضان المعظم، وأعلى مراتب إكرام هذا الشهر هو استثمار كافة المنح والعطايا الربانية المخصوصة به أعلى استثمار؛ عسى أن نكون من أهل القبول فنفوز بمغفرة الغفور.
من هذا المنطلق، فعلى المسلم أن يضع في ذهنه الإكرام بـ"العجل الحنيذ" عند كل موضع طاعة في رمضان، فإذا أمسك في رمضان عقد العزم على بلوغ أخص أنواع الإمساك، والمعروف بصيام خواص الخواص، وإذا وصل الرحم في رمضان وصله بأعلى درجات الصلة، فلا يقتصر على الاتصالات الهاتفية، بل ينتقل ويزور ويبحث أحوال وحاجات أقاربه، ويكرمهم ويجزل في عطاياه إليهم، ويعمل على حل مشكلاتهم وقضاء ديونهم، وإذا قرأ القرآن قرأه بأعلى درجات التركيز والتدبر، لا يركز على الكم في القراءة بقدر تركيزه على الكيف والتدبر والمدارسة أثناء القراءة، ولا يكون ذلك إلا بمصاحبة كتب التفاسير وشروح المفسرين المقروءة والمسموعة.
وإذا صلى وقام وتهجد قصد أعلى مراتب الخشوع، فيسير مع الإمام متأملاً ومتدبرًا في الآيات التي يتلوها، مستحضرًا عظمة الله في قلبه، ومنتبهًا دومًا بأنه ناظره. أما إذا أنفق على الفقراء ووفر لهم الطعام، فليس أقل من العجل الحنيذ في الإنفاق والإطعام، فإذا كانت الموائد تُعَد على أعلى مستوى لمن هم بطبيعة الحال يستطيعون إعداد ذات الموائد، فإن الفقير أولى بتذوق الأطعمة التي لا يستطيع أن يوفرها لنفسه ولأولاده، هذا إذا كنا نطمع في البر؛ فربنا بيَّن لنا أن البر لن نناله إلا إذا أنفقنا مما نحب، يقول تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92].
وفي كل معروف يبذله العبد يتذكر أثناء بذله العجل الحنيذ، فيبذل ويجود بأعلى ما منَّ الله به عليه، تُرى من سيجعل العجل الحنيذ مكرمته في رمضان هذا العام؟