ها قد وصلنا إلى الليالي الأخيرة من هذا الشهر المبارك، وستنتهي هذه الليالي أسرع مما قبلها؛ فالمؤمنون المخلصون ينتظرونها من عام إلى عام، فيها ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله.
من عظم قدر هذه الليلة أنها سميت ليلة (القدر)؛ فقد أنزل الله فيها كتابًا عظيم (القدر)، وأمر ملكًا عظيم (القدر) أن يُنزِّله على نبي عظيم (القدر)، وتتنزل فيها ملائكة عظيمة (القدر)، فاستحقت أن تكون بلا منافس ليلة (القدر).
العباد الصادقون يتلفهون لإدراكها، فقد أنزل الله في فضلها سورة كاملة، وجزءًا من سورة أخرى، وسماها الله أيضًا بالليلة (المباركة) التي (يفرق فيها كل أمر حكيم)، ويقدر فيها مقادير السنة مرة أخرى كما قدرت من قبل؛ فالليلة عظيمة الشأن (سلام) من بدايتها إلى نهايتها.
الأمم السابقة كان الناس فيها يعمرون سنين طويلة، منهم من يبلغ الألف عام أو يزيد، ومنهم العباد والقانتون، أما أمتنا فقليل من يتجاوز السبعين عامًا؛ ولهذا أكرم الله هذه الأمة بليلة خير من ألف شهر؛ أي تزيد على الثمانين عامًا. فأيُّ كرم هذا! وأي فضل من رب العالمين علينا!
ليلة القدر هي ليلة تنتقل بين هذه الليالي العشر، قد تكون السابعة والعشرين كما قال بعض الأولين، وقد تكون في ليلة أخرى. هي في الغالب إحدى الليالي الوتر إن أصبنا في أيامنا ومواقيتنا، لكن الذي يضمن قيامه لهذه الليلة هو من قام بالعشر كلها، وهذا هو الهدي النبوي، بل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقوم العشر كلها، ويعتكف في مسجد لا يخرج منه إلا ليلة العيد، ليله ونهاره عبادة، وكان يأمر أهله بالعبادة في هذا الشهر، وكان إذا دخل العشر "شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله"، وكان يعلِّم زوجته الصديقة عائشة -رضي الله عنها- أن تقول في دعائها: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
ينبغي على من أدرك هذه العشر أن يغير حاله، فمن كان مجتهدًا في العبادة فيلزد اجتهادًا، ومن كان مقصرًا فليتوقف عن تقصيره، وليبدأ صفحة جديدة بينه وبين الله، فـ"من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر ما تقدم من ذنبه"، وعباد الرحمن يبيتون هذه الليالي سجدًا وقيامًا، ودعاء وقنوتًا، وبكاء وخشوعًا، وذكرًا واستغفارًا.
مساكين والله من ضيعوا هذه الليالي في لهوهم وتسكعهم، محرومون من انشغلوا بالمسلسلات والمشي في الأسواق والجلوس في المقاهي عن الاعتكاف والجلوس في المساجد والإخلاص في العبادة، مهملون من تركوا أهاليهم في هذه الليالي فلم يشجعوهم على الصلاة والقيام وترك الذنوب والمنكرات.
هذه العشر الغالية قد بدأت، والسباق الآن في آخره، والصالحون قد بلغوا المنازل العالية، فماذا نحن فاعلون؟! {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].