روى الشيخان وغيرهما واللفظ للبخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا صام أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم، والذي نفس محمد بيده لَخَلُوفِ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر وإذا لقي ربه فرح بصومه". وفي رواية لمسلم: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي". وفي رواية لمالك وأبي داود والترمذي: "وإذا لقي الله عز وجل فجزاه فرح" الحديث.
وإنما كان الصائم يفرح بهذين الشيئين لأن الإنسان مركب من جسم وروح فغذاء الجسم الطعام وغذاء الروح لقاء الله. والله أعلم.
قال الحافظ: ومعنى قوله الصيام جنة بضم الجيم وما يجن العبد ويستره ويقيه مما يخاف، فقال: ومعنى الحديث: إن الصوم يستر صاحبه ويحفظه من الوقوع في المعاصي. والرفث يطلق ويراد به الجماع ويطلق ويراد به الفحش، ويطلق ويراد به خطاب الرجل للمرأة فيما يتعلق بالجماع.
وقال كثير من العلماء: المراد به في هذا الحديث الفحش ورديء الكلام. والخلوف: بفتح الخاء وضم اللام هو تغير رائحة الفم من الصيام. وروى الطبراني والبيهقي مرفوعا: "الصيام لله عز وجل لا يعلم ثواب عامله إلا الله عز وجل" وروى الطبراني ورواته ثقات مرفوعا: صوموا تصحوا.
وروى الإمام أحمد بإسناد جيد والبيهقي مرفوعا: الصيام جنة وحصن حصين من النار. وفي رواية لابن خزيمة في صحيحه: الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال. وروى الإمام أحمد والطبراني والحاكم ورواتهم محتج بهم في الصحيح مرفوعا: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة. فيقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشراب والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه قال فيشفعان". وروى ابن ماجه مرفوعا: "لكل شيء زكاة وزكاة الجسد الصوم".
وروى البيهقي مرفوعا: "إن للصائم عند فطره لدعوة لا ترد". وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه واللفظ له وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه مرفوعا: "ثلاث لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر". وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا: "ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا".
قال الحافظ: قد ذهب طوائف من العلماء إلى أن الحديث في فضل الصوم في الجهاد وبوب على ذلك الترمذي وغيره، وذهبت طائفة إلى أن كل صوم في سبيل الله إذا كان خالصا لله تعالى. والله أعلم.
قال الإمام الشعراني: (أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يكون معظم محبتنا للصوم من حيث كون الله تعالى قال {الصوم لي}، لا من حيثية أخرى كطلب ثواب أو تكفير خطيئة ونحو ذلك، فإن من عمل لله تعالى كفاه هم الدنيا والآخرة وأعطاه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فضلا عن الثواب وتكفيرا الخطايا، وغيرهما من الأغراض النفسانية في الدنيا والآخرة، ولم يبلغنا عن الله تعالى أنه قال في شيء من العبادات إنه له خالصا إلا الصوم، فلولا مزيد خصوصية ما أضافه إليه.
قال الإمام علي الخواص: ومعنى قوله تعالى في الحديث القدسي: {الصوم لي} يعني من حيث إنه صفة صمدانية ليس فيه أكل ولا شرب ولذلك أمر الصائم أن لا يرفث ولا يفسق، ولا يقول الهجر من الكلام أدبا مع الصفة الصمدانية التي تلبس بنظير اسمها.
وقال سفيان بن عيينة في معنى قوله تعالى: {كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به}. قال: إذا كان يوم القيامة يحاسب الله تعالى عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله، حتى لا يبقى إلا الصوم فيحمل الله تعالى ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة وهو كلام غريب.
ومن فوائد الصوم أن يسد مجاري الشيطان من بدن الصائم ويصير عليه كالجنة فلا يجد الشيطان من بدنه مسلكا يدخل إلى قلبه منه من العام إلى العام، ومن الاثنين إلى الخميس أو من الخميس إلى الاثنين، أو من الأيام البيض إلى الأيام البيض، أو من الشهر الحرام إلى الشهر الحرام، أو من عاشوراء إلى عاشوراء، أو من يوم عرفة إلى يوم عرفة، كل صوم يكون جنة منه إلى نظيره من الصوم الذي بعده كل جنس بما يقابله، فللاثنين دائرة وللخميس دائرة، وللأيام البيض دائرة، وللشهر الحرام إلى مثله دائرة، وليوم عرفة إلى مثله دائرة، وليوم عاشوراء إلى مثله دائرة، ولكل دائرة حفظ من أمور خاصة، بها فلا يصل إبليس إلى العبد ليوسوس له بها كنظيره من الصلاة والزكاة والحج والوضوء والركوع والسجود، فلكل منهما ذنوب تكفر بها، فلا يكفر عمل ما يكفر غيره من الأعمال، ويؤيد ما قلناه خبر مسلم مرفوعا: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".
هذا الشهر العظيم، فيه ليلة القدر خير من ألف شهر، وهي مدة أعمار الناس الغالبة وهي ثلاث وثمانون سنة، فلو زنت عبادة العبد طول هذا العمر مع أعماله في ليلة القدر لكانت ليلة القدر أرجح من سائر أعماله الخالصة الدائمة التي لا يتخللها فتور فكيف بالأعمال التي دخلها الرياء وتخللها معاص وسيئات وغفلات وشهوات.